كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم نلتقي به وقد استوفت المحنة بيعقوب أجلها، وقدر الله أن تنقضي الابتلاءات التي نزلت به وببيته، وحن يوسف إلى أبويه وأهله، ورق لأخوته والضر باد بهم، فكشف لهم عن نفسه، في عتاب رقيق، وفي عفو كريم، يجيء في أوانه، وكل الملابسات توحي به، وتتوقعه من هذه الشخصية بسماتها تلك:
{فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين اذهبوا بقميصي هذه فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين}.
وفي النهاية يجيء ذلك الموقف الجليل الرائع.. موقف اللقاء الجامع ويوسف في أوج سلطانه وأوج تأويل رؤياه وتحقق أحلامه.. وإذا به ينسلخ من هذا كله وينتحي جانبا ينفرد بربه، ويناجيه خالصا له، وذلك كله مطروح وراءه:
{رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين}.
إنها شخصية موحدة متكاملة، بكل واقعيتها الممثلة لمقوماتها الواقعية في نشأتها وبيئتها.
ويعقوب.. الوالد المحب الملهوف، والنبي المطمئن الموصول، وهو يواجه بالاستبشار والخوف معا تلك الرؤيا الواعدة التي رآها يوسف؛ وهو يرى فيها بشائر مستقبل مرموق، بينما هو يتوجس خيفة من الشيطان وفعله في نفوس بنيه. فتتجلى شخصيته بواقعيتها الكاملة في كل جوانبها: {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم}.
ثم نجد هذه الشخصية كذلك بكل واقعيتها البشرية النبوية، وبنوه يراودونه عن يوسف ثم وهم يفاجئونه بالفجيعة:
{قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون وجاءوا أباهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون}.
ثم نلتقي بهذه الشخصية- بكل واقعيتها تلك- وبنوه يراودونه مرة أخرى على السلوة الباقية له.. أخي يوسف.. وقد طلبه منهم عزيز مصر- يوسف- الذي لا يعرفونه! في مقابل أن يعطيهم كيلا يقتاتون به في السنوات العجاف!
{فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغنى عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه ففليتوكل المتوكلون ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
ثم نلتقي به في فجيعته الثانية.. والدا ملهوفا ونبيا موصولا.. ذلك بعد أن دبر الله ليوسف كيف يأخذ أخاه. فيتخلف أحد أبناء يعقوب- صاحب الشخصية الخاصة فيهم، متوافيا مع سماته التي صاحبت مواقفه كلها في القصة، مشفقا أن يقابل أباه بعد الموثق الذي آتاه إياه. إلا أن يأذن له أبوه أو يحكم له الله-:
{فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم وتولى عنهم وقال يا أسفا على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}.
وفي آخر مواقف المحنة الطويلة للشيخ المبتلي نجد ذات الملامح وذات الواقعية. وهو يشم ريح يوسف في قميصه، ويواجه غيظ بنيه وتبكيتهم فلا يشك في صدق ظنه بربه:
{ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف استغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم}.
إنها الشخصية الموحدة الخصائص والملامح، الواقعية المشاعر والتصرفات، الممثلة لكل واقعية ذاتها وظروفها وبيئتها بلا تزوير ولا نقص ولا تحريف!
والواقعية الصادقة الأمنية النظيفة السليمة في الوقت نفسه، لا تقف عند واقعية الشخصيات الإنسانية التي تحفل بها القصة في هذا المجال الواسع، على هذا المستوى الرائع. ولكنها تتجلى كذلك في واقعية الأحداث والسرد والعرض وصدقها وطبيعيتها في مكانها وزمانها، وفي بيئتها وملابساتها.. فكل حركة وكل خالجة وكل كلمة تجيء في أوانها؛ وتجيء في الصورة المتوقعة لها؛ وتجيء في مكانها من مسرح العرض؛ متراوحة بين منطقة الظل ومنطقة الضوء بحسب أهميتها ودورها وطبيعة جريان الحياة بها.. الأمر الملحوظ في الشخصيات أيضا كما قررنا من قبل هذا..
حتى لحظات الجنس في القصة ومواقفه أخذت مساحتها كاملة- في حدود المنهج النظيف اللائق بالإنسان في غير تزوير ولا نقص ولا تحريف للواقعية البشرية في شمولها وصدقها وتكاملها- ولكن استيفاء تلك اللحظات لمساحتها المتناسقة مع بقية الأحداث والمواقف لم يكن معناه الوقوف أمامها كما لو كانت هي كل واقعية الكائن البشري؛ وكما لو كانت هي محور حياته كلها، وهي كل أهداف حياته التي تستغرقها! كما تحاول الجاهلية أن تفهمنا أن هذا وحده هو الفن الصادق!
إن الجاهلية إنما تمسخ الكائن البشري باسم الصدق الفني! وهي تقف أمام لحظة الجنس كما لو كانت هي كل وجهة الحياة البشرية بجملتها؛ فتنشيء منها مستنقعا واسعا عميقا، مزينا في الوقت ذاته بالأزهار الشيطانية!
وهي لا تفعل هذا لأن هذا هو الواقع، ولا لأنها هي مخلصة في تصوير هذا الواقع! إنما تفعله لأن بروتوكولات صهيون تريد هذا! تريد تجريد الإنسان إلا من حيوانيته حتى لا يوصم اليهود وحدهم بأنهم هم الذين يتجردون من كل القيم غير المادية! وتريد أن تغرق البشرية كلها في وحل المستنقع كي تنحصر فيه كل اهتماماتها، وتستغرق فيه كل طاقاتها؛ فهذه هي أضمن سبيل لتدمير البشرية حتى تجثو على ركبتيها خاضعة لملك صهيون المرتقب الملعون! ثم تتخذ من الفن وسيلة إلى هذا الشر كله، إلى جانب ما تتخذه من نشر المذاهب العلمية! المؤدية إلى ذات الهدف. تارة باسم الداروينية وتارة باسم الفرويدية وتارة باسم الماركسية أو الاشتراكية العلمية.. وكلها سواء في تحقيق المخططات الصهيونية الرهيبة!
والقصة بعد ذلك تتجاوز الشخصيات والأحداث لترسم ظلال الفترة التاريخية التي تجري فيها أحداث القصة، وتتحرك فيها شخصياتها الكثيرة، وتسجل سماتها العامة، فترسم مسرح الأحداث بأبعاده العالمية في تلك الفترة التاريخية.. ونكتفي ببعض اللمحات والسهام التي ترسم تلك الأبعاد:
إن مصر في هذه الفترة لم يكن يحكمها الفراعنة من الأسر المصرية؛ إنما كان يحكمها الرعاة الذين عاش إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب قريبا منهم، فعرفوا شيئا عن دين الله منهم. نأخذ هذا من ذكر القرآن للملك بلقب الملك في حين يسمى الملك الذي جاء على عهد موسى عليه السلام من بعد بلقبه المعروف. فرعون.. ومن هذا يتحدد زمن وجود يوسف عليه السلام في مصر. فهو كان ما بين عهد الأسرة الثالثة عشرة والأسرة السابعة عشرة؛ وهي أسر الرعاة الذين سماهم المصريون الهكسوس! كراهية لهم؛ إذ يقال: إن معنى الكلمة في اللغة المصرية القديمة: الخنازير أو رعاة الخنازير! وهي فترة تستغرق نحو قرن ونصف قرن.
إن رسالة يوسف عليه السلام كانت في هذه الفترة. وهو كان قد بدأ الدعوة إلى الإسلام.. ديانة التوحيد الخالص.. وهو في السجن؛ وقرر أنها دين آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ وقررها في صورة واضحة كاملة دقيقة شاملة، فيما حكاه القرآن الكريم من قوله: {إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}..
وهي صورة للإسلام واضحة كاملة ودقيقة وشاملة- كما جاء به رسل الله جميعا- من ناحية أصول العقيدة. تحتوي، الإيمان بالله، والإيمان بالآخرة، وتوحيد الله وعدم الشرك به أصلا، ومعرفة الله سبحانه بصفاته.. الواحد، القهار.. والحكم بعدم وجود حقيقة ولا سلطان لغيره أصلا؛ ومن ثم نفى الأرباب التي تتحكم في رقاب العباد، وإعلان السلطان والحكم لله وحده، ما دام أن الله أمر ألا يعبد الناس غيره. ومزاولة السلطان والحكم والربوبية هي تعبيد للناس مخالف للأمر بعبادة الله وحده. وتحديد معنى العبادة بأنها الخضوع للسلطان والحكم والإذعان للربوبية، وتعريف الدين القيم بأنه إفراد الله سبحانه بالعبادة- أي إفراده بالحكم- فهما مترادفان أو متلازمان: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم}.. وهذه هي أوضح صورة للإسلام وأكملها وأدقها وأشملها..
وواضح أن يوسف عليه السلام عندما سيطر على مقاليد الأمور في مصر، استمر في دعوته للإسلام على هذا النحو الواضح الكامل الدقيق الشامل.. ولابد أن الإسلام انتشر في مصر على يديه- وهو يقبض على أقوات الناس وأزوادهم لا على مجرد مقاليد الحكم بينهم- وانتشر كذلك في البقاع المجاورة ممن كانت وفودها تجيء لتقتات مما تم ادخاره بحكمته وتدبيره- وقد رأينا إخوة يوسف يجيئون من أرض كنعان المجاورة في الأردن ضمن غيرهم من القوافل ليمتاروا من مصر ويتزودوا، مما يصور حالة الجدب التي حلت بالمنطقة كلها في هذه الفترة.
والقصة تشير إلى آثار باهتة للعقيدة الإسلامية التي عرف الرعاة شيئا عنها في أول القصة، كما تشير إلى انتشار هذه العقيدة ووضوحها بعد دعوة يوسف بها.
والإشارة الأولى وردت في حكاية قول النسوة حين طلع عليهن يوسف: {فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم}..
ووردت في قول العزيز لامرأته: {يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين}..